في أحدث مشاهد معادلة الإبادة أقدم العدو على هجومه في لبنان متزامنا مع مجازره المستمرة في غزة، أو على وجه الدقة أقدم على محاولته لتفجير ٥ آلاف إنسان دفعة واحدة، مكثفا تخيلات المستعمر الغربي ورديفه الصهيوني عن العالم والمستقبل والتقنية، أن يبيد الناس باستخدام الآلة بضغطة زر واحدة، وهو ما أثار أسئلة كثيرة حول كيفية حدوث ذلك.
مرد هذه الأسئلة هو تخيلات أرادها العدو في تصميمه لعمليته، وهو تعطيل إرادة القتال عبر الصدمة والترويع، اي خلق تصورات -كاذبة- بأنه مطلق القدرة يفعل ما يشاء، ويخترق المقاومة ويسيطر على أنظمتها ويحقق معجزات تقيه شر القتال وتمنحه ابادة سهلة، ولكن هذا ببساطة لن يحدث، لأن كل شيء في هذا العالم -تقريبا- قابل للتفسير والفهم والمعالجة.
ومنذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ لم يقدم العدو ما لا يمكن تفسيره وفهمه، وفي كل ضربة وجهها للمقاومة، وحتى جريمة ارتكبها لم تكن هناك معجزات تقنية تشي بقدرات جديدة اعجازية لديه، وفي حالة الهجوم التفجيري الواسع باستخدام اجهزة الاستدعاء واجهزة الاتصال تحديداً، فإن العدو كما تشير معظم الدلائل قد استثمر في خرق استخباري ليقوم بتفخيخ آلاف من أجهزة الاستدعاء وأجهزة الاتصال، وهنا نتحدث عن عملية خداع استخباري نجح فيها المحتل أو عملية تجنيد لعميل ذو قدرة على تيسير هذه العملية، ومن يدرك كم استثمرت اجهزة الاستخبارات الغربية من الموارد والعلاقات والتقنيات في العمل الأمني ضد حزب الله وقوى المقاومة يعي أن حدوث الخرق ممكن، فيما تبقى أسئلة كثيرة حول تأثير هذه الضربات وقدرتها على المساس بموارد قوة المقاومة، وأهمها اطلاقا المورد البشري أي رجالها ومقاتليها وحواضنها، وعلاقة الثقة بينها وبين هذه الحواضن.
هذه ضربة تتلقاها قوى المقاومة وتردها بضربات اخرى، الهلع والفزع ليس له متسع في هذه المواجهة التي عرفت فيها شعوبنا معنى تضافر القدرات الاستخبارية الغربية وايضا العربية الرسمية ضد شعوبنا ومقاومتنا، كما عرفت أيضا ماهية حركات المقاومة، وتحديدا قابليتها لتحدي ضربات مثل هذه والتغلب عليها.
فما مثلته المقاومة طيلة العقود الماضية هو تعطيل هذه القدرة لدى العدو، مجسدة اضطرار الشعوب العربية لابتداع أدوات للدفاع عن النفس في وجه الابادة، حين قررت النظم العربية وجيوشها الانسحاب من قتال العدو الصهيوني بل والخضوع لهيمنته الكاملة ولعب أدوار متعددة في خدمة ابادته لمن بقي متمردا على هذه القوة الاستعمارية ومن وراءها، وهنا جاءت المقاومة بتشكيلاتها المختلفة كافراز اجتماعي متصل ومتجذر بعمق في مجتمعه ومعبر عن إرادته، وهذا تحديدا ما يجعله قادر على التعويض لآلاف من من الشهداء الذين تقدموا الصفوف عبر سنوات الصراع، وأكثر من ذلك يجعل من المقاومة روح حية أكثر من كونها ماكينة قتل مثل جيوش الاجرام الاستعماري او هياكل الجيوش العربية الشكلية والتي نشأت أصلا كمولود ميت، ومن تابع كيف مرت المقاومة بمحن كثيرة استهدفت وجودها وبشر قادة المستعمر بنجاحهم في خنقها وشنقها وحصارها وتصفيتها في مئات المحطات الاخرى يدرك جيدا أن هذه الهجمة الوحشية بما تركته من نتائج مؤلمة لن تكون ابدا كافية لاستئصال المقاومة او تحطيم ارادتها او حتى تعطيل قدرتها على العمل، وقد كان الجواب الأول كلمات على ألسنة المقاومة والمقاومين، ولعله من اللافت أن الكلمات والموقف خرجت أولا من غزة وأهلها و فلسطين ومقاومتها مؤكدة ثقتها بقرار وإرادة الحزب باستمرار دعمه الناري لغزة، وجاء الموقف على لسان قيادة المقاومة في لبنان بهذا المعنى بالذات، وبالاف من المواقف من الجرحى واهالي الشهداء وأهالي الضاحية الأبية في بيروت وقرى الجنوب والبقاع، ومن صنعاء الى بغداد لم يسمع العدو من بيئة المقاومة صدى لكلمة واحدة تعبر عن اهتزاز أمام جرائمه الوحشية، أما اجوبة النار فقصة اخرى لم تكد تبدأ بعد، وستأتي بما يؤكد سلامة جسم المقاومة وروحها وأن استعدادها طيلة الاعوام الماضية لم يكن هدرا.
أما في تقييم قدرة العدو فإن الأهم ليس فحص ارادته في ابادتنا، بل قدراته وما يحققه من تقدم تقني وتطوير عسكري هيكلي او تشغيلي، و هنا إن قدرة المحتل على اختراق بيئة وبنية المقاومة، لا تعطيه هيمنة مطلقة ولا تجسد تطور في قدراته، ولكن خلل معين انتظره العدو طويلا ثم استثمر فيه، وهو يدرك تماما أنه لم يمتلك هيمنة استخبارية على بيئة المقاومة أو بنيتها، بل وسارع لاستثمار هذا الخلل والرهان على "مجزرة البيجر" ثم "مجزرة الضاحية"، علما بأنها قد تكون محضرة اصلا كأوراق للاستخدام في حالة اندلاع قتال شامل.
لكن لنتخيل أن العدو بالفعل امتلك هيمنة استخبارية على شق معين، فهل هذا يكفل له النصر؟ او تحقيق أهدافه، إن بنية المقاومة وطريقة نمو هذه البنية المرتبطة أصلا بعوامل ظهورها وتشكلها ولدت اصلا بحيث تكون غير قابلة للانهيار بواسطة الهيمنة الأمنية والاستخبارية، كمجتمع يتسلح ويستعد للقتال في كل يوم دفاعا عن وجوده، تجربة المقاومة تقول ان ميزتها اصلا في قدرتها على العمل حتى في ظروف مثل هذه، فقد عملت هذه المقاومة فيما تسلطت عليها اجهزة الأمن المحلية والدولية لعقود، وحين كانت بضعة من أفراد يطاردهم العالم بأسره.
وفي التحليل الفني المباشر لما قام به العدو حتى الآن، فإنه يلجأ لضربات عسكرية، تحاول إيذاء المقاومة وبنيتها وبيئتها باستخدام ضربات ذات طبيعة أمنية، آملا في انهيار جزئي لارادتها أو اشاعة الاحباط ونزع الثقة في حواضنها، ولكن من قال أن هذه المجتمعات تتعامل مع المقاومة كجسم منفصل عنها تراقب اداؤه ثم تقرر الايمان به او رفضه، الحقيقة أن الأظافر المسلحة لمجتمعنا العربي هي امتداد للجسد الاجتماعي الشعبي العربي سيواصل رفدها بما تحتاجه في كل موقف وحملها ودعمها والثقة بها، وهو ما سيشهده العدو في قادم الأيام.
إذ تحتشد أساطيل العالم لضمان استكمال الابادة، فإن للعقل أن يفهم المعركة كما هي في حقيقتها منذ اليوم الأول لاصطناع قوى الاستعمار لقاعدتها العسكرية على أرض فلسطين وتبدأ المجزرة والمقتلة الكبرى المستمرة منذ ١٠٠ عام هي تاريخ وعد بلفور المشؤوم، الخضوع لإبادة متدرجة لشعب فلسطين، أو الابادة الشاملة والمكثفة التي تطال شعوب بأكملها اذا بادرت لمقاومة ابادة متدرجة لكنها محتومة، فإن جواب مجتمعنا وشعبنا العربي وقوى المقاومة في المنطقة لن يكتب اليوم، فقد تسجل هذا الجواب وتعمد بالفعل والقول والدم والتضحيات طيلة عقود من الصراع، إن الجواب هو وجود المقاومة، وهذا النداء المستمر في السريان عبر الشبكة العصبية لمجتمعاتها، أنه ليس أمامنا في حرب الابادة الا طريق النصر وأننا ابدا لن نعيش مع الهزيمة او الاستسلام، وأن طريق القدس سيبقى شريان يرفد طوفان الاقصى، وأن تضحيات المقاومة وآلام الشعوب ليست نقاط ضعف تميتها ولكن نبض جديد يذكر الامتداد الشاسع لشعوب المنطقة بحقيقة هذا الصراع وموضعه ضمنه، وقد جاء الجواب في الضاحية الجنوبية وقرب موقع الغارة الصهيونية الغادرة وفي كل خندق ونقطة وعقدة قتال للمقاومة، هنا فلسطين، لن نترك فلسطين.